فصل: ذكر غزوة جزيرة سردانية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر غزو شومان وكش ونسف:

وفي هذه السنة سار قتيبة إلى شومان فحصرها.
وكان سبب ذلك أن ملكها طرد عامل قتيبة من عنده فأرسل إليه قتيبة رسولين، أحدهما من العرب اسمه عياش، والآخر من أهل خراسان، يدعوان ملك شومان أن يؤدي ما كان صالح عليه. فقدما شومان، فخرج أهلها إليهما فرموهما، فانصرف الخراساني وقاتلهم عياش فقتلوه، ووجدوا به ستين جراحة.
وبلغ قتله قتيبة فسار إليهم بنفسه، فلما أتاها أرسل صالح بن مسلم أخو قتيبة إلى ملكها، وكان صديقاً له، يأمره بالطاعة ويضمن له رضا قتيبة إن رجع إلى الصلح. فأبى وقال لرسول صالح: أتخوفني من قتيبة وأنا أمنع الملوك حصناً؟ فأتاه قتيبة وقد تحصن ببلده فوضع عليه المجانيق، ورمى الحصن من مال وجوهر ورمى به في بئر بالقلعة لا يدرك قعرها ثم فتح القلعة وخرج إليهم فقاتلهم حتى قتل، وأخذ قتيبة القلعة عنوةً فقتل المقاتلة وسبى الذرية.
ثم سار إلى كش ونسف ففتحهما. وامتنعت عليه فارياب فأحرقها، فسميت المحترقة، وسير من كش ونسف أخاه عبد الرحمن إلى الصغد، وملكها طرخون، فقبض عبد الرحمن من طرخون ما كان صالحه عليه قتيبة ودفع إليه رهناً كانوا معه، ورجع إلى قتيبة ببخارى وكان قد سار إليها من كش ونسف، فرجعوا إلى مرو. ولما كان قتيبة ببخارى ملك بخاراخذاه، وكان غلاماً حدثاً، وقتل من يخاف أن يضاده.
وقيل: إن قتيبة سار بنفسه إلى الصغد، فلما رجع عنهم قالت الصغد لطرخون: إنك قد رضيت بالذل واستطبت الجزية وأنت شيخ كبير، فلا حاجة لنما فيك، فحبسوه وولوا غوزك، فقتل طرخون نفسه.

.ذكر عدة حوادث:

قيل: في هذه السنة استعمل الوليد خالد بن عبد الله القسري على مكة، فلم يزل والياً عليها حتى مات الوليد، وكان قد تقدم سنة تسع وثمانين ذكره أيضاً، فلما ولي مكة خطبهم وعظم أمر الخلافة وحثهم على الطاعة، فقال: لو أني أعلم أن هذه الوحش التي تأمن في الحرم لو نطقت لم تقر بالطاعة لأخرجتها منه، فعليكم بالطاعة ولزوم الجماعة، فإني والله لا أوتى بأحد يطعن على إمامه إلا صلبته في الحرم، إني لا أرى فيما كتب به الخليفة أو رآه إلا إمضاءه. واشتد عليهم.
وحج بالناس هذه السنة الوليد بن عبد الملك، فلما دخل المدينة غدا إلى المسجد ينظر إلى بنائه، وأخرج الناس منه ولم يبق غير سعيد بن المسيب لم يجرؤ أحد من الحرس أن يخرجه، فقيل له: لو قمت. قال: لا أقوم حتى يأتي الوقت الذي كنت أقوم فيه. فقيل: لو سلمت على أمير المؤمنين. قال: والله لا أقوم إليه. قال عمر بن عبد العزيز: فجعلت أعدل بالوليد في ناحية المسجد لئلا يراه، فالتفت الوليد إلى القبلة فقال: من ذلك الشيخ؟ أهو سعيد؟ قال عمر: نعم، ومن حاله كذا وكذا، فلو علم بمكانك لقام فسلم عليك، وهو ضعيف البصر. قال الوليد: قد علمت حاله ونحن نأتيه. فدار في المسجد حتى أتاه فقال: كيف أنت أيها الشيخ؟ فوالله ما تحرك سعيد بل قال: بخير والحمد الله، فكيف أمير المؤمنين وكف حاله؟ فانصرف وهو يقول لعمر: هذا بقية الناس! وقسم بالمدينة دقيقاً كثيراً وآنيةً من ذهب وفضة وأموالاً، وصلى بالمدينة الجمعة فخطب الخطبة الأولى جالساً ثم قام فخطب الخطبة الثانية قائماً. قال إسحاق بن يحيى: فقلت لرجاء بن حيوة وهو معه: أهكذا تصنعون؟ قال: نعم، مكرراً، وهكذا صنع معاوية وهلم جراً. قال فقلت له: هلا تكلمه؟ قال: أخبرني قبيصة بن ذؤيب أنه كلم عبد الملك ولم يترك القعود، وقال: هكذا خطب عثمان. قال فقلت: والله ما خطب إلا قائماً. قال رجاء: روي لهم شيء فاقتدوا به. قال إسحاق: ولم نر منهم أشد تجبراً منه.
وكان العمال على البلاد من تقدم ذكرهم غير مكة، فإن خالداً كان عاملها، وقيل: إن عاملها هذه السنة كان عمر بن عبد العزيز بن مروان. وفي هذه السنة غزا عبد العزيز بن الوليد الصائفة، وكان على ذلك الجيش مسلمة بن عبد الملك، وفيها عزل الوليد عمه محمد بن مروان عن الجزيرة وأرمينية واستعمل عليها أخاه مسلمة بن عبد الملك، فغزا مسلمة الترك من ناحية أذربيجان حتى بلغ البال، وفتح مدائن وحصوناً ونصب عليها المجانيق. ثم دخلت:

.سنة اثنتين وتسعين:

في هذه السنة غزا مسلمة بن عبد الملك أرض الروم ففتح حصوناً ثلاثة وجلا أهل سوسنة إلى بلاد الروم.

.ذكر فتح الأندلس:

وفيها غزا طارق بن زياد مولى موسى بن نصير الأندلس في اثني عشر ألفاً، فلقي ملك الأندلس، واسمه اذرينوق، وكان من أهل أصبهان، وهم ملوك عجم الأندلس، فزحف له طارق بجميع من معه، وزحف الأذرينوق وفتح الأندلس سنة اثنتين وتسعين.
هذا جميعه ذكره أبو جعفر في فتح الأندلس، وبمثل ذلك الإقليم العظيم والفتح المبين لا يقتصر فيه على هذا القدر، وأنا أذكر فتحها على وجه أتم من هذا إن شاء الله تعالى من تصانيف أهلها إذ هم أعلم ببلادهم.
قالوا: أول من سكنها قوم يعرفون بالأندلش، بشين معجمه، فسمي البلد بهم، ثم عرب بعد ذلك بسين مهملة، والنصارى يسمون الأندلس اشبانية باسم رجل صلب فيها يقال له اشبانس، وقيل: باسم ملك كان بها في الزمان الأول اسمه إشبان بن طيطس، وهذا هو اسمها عند بطلميوس. وقيل: سميت بأندلس بن يافث بن نوح وهو أول من عمرها، قيل: أول من سكن الأندلس بعد الطوفان قوم يعرفون بالأندلس فعمروها وتداولوا ملكها دهراً طويلاً وكانوا مجوساً، ثم حبس الله عنهم المطر وتوالى عليهم القحط فهلك أكثرهم وفر منها من أطاق الفرار، فخلت الأندلس مائة سنة ثم ابتعث الله لعمارتها الأفارقة، فدخل إليها قوم منهم أجلاهم ملك إفريقية تخففاً منهم لقحط توالى على بلاده حتى كاد يفنى أهلها، فحملها في السفن مع أمير من عنده فأرسوا بجزيرة قاس، ورأوا الأندلس قد أخصبت بلادها وجرت أنهارها فسكنوها وعمروها ونصبوا لهم ملوكاً يضبطون أمرهم، وهم على دين من قبلهم، وكانت دار مملكتهم طالقة الخراب من أرض إشبيلية بنوها وسكنوها وأقاموا مدة تزيد على مائة وخمسين سنة، ملك منهم فيها أحد عشر ملكاً.
ثم أرسل الله عليهم عجم رومة، وملكهم إشبان بن طيطس، فغزاهم ومزقهم وقتل فيهم وحاصرهم بطالقة وقد تحصنوا فيها فابتنى عليهم إشبانية، وهي إشبيلية، واتخذها درا مملكته، وكثرت جموعه وعتا وتجبر، وغزا بين المقدس فغنم ما فيه وقتل فيه مائة ألف، ونقل المرمر منه إلى إشبيلية وغيرها، وغنم أيضاً مائدة سليمان بن داود، عليه السلام، وهي التي غنمها طارق من طيطلة لما افتتحها، وغنم أيضاً قليلة الذهب والحجر الذي لقي بماردة.
وكان هذا إشبان قد وقف عليه الخضر وهو يحرث الأرض فقال له: يا إشبان سوف تحظى وتملك وتعلو، فإذا ملكت إيلياء فارفق بذرية الأنبياء. فقال: أتسخر مني؟ كيف ينال مثلي الملك؟ فقال: قد جعله فيك من جعل عصاك هذه كما ترى. فنظر إليه فإذا هي قد أورقت، فارتاع وذهب عنه الخضر، وقد وثق إشبان بقوله، فداخل الناس فارتقى حتى ملك ملكاً عظيماً، وكان ملكه عشرين سنة، ودام ملك الإشبانيين بعده إلى أن ملك منهم خمسة وخمسون ملكاً.
ثم دخل عليهم من عجم رومة أمة يدعون البشنوليات، وملكهم طويش بن نيطة، وذلك حين بعث الله المسيح فغلبوا عليها واسترلوا على ملكها، وكانت مدينة ماردة دار مملكتهم، وملك منهم سبعة وعشرون ملكاً.
ثم دخلت عليهم أمة القوط مع ملك لهم فغلبوا على الأندلس فاقتطعوها من يومئذٍ عن صاحب رومة، وكان ابتداء ظهورهم من ناحية إيطالية شرق الأندلس، فأغارت على بلاد مدونية من تلك الناحية، وذلك في أيام قليوذيوس قيصر، ثالث القياصرة، فخرج إليهم وهزمهم وقتل فيهم ولم يظهروا بعدها إلى أيام قسطنطين الأكبر وأعادوا الغارة، فسير إليهم جيشاً فلم يثبتوا له وانقطع خبرهم إلى ثلث دولة قيصر، فإنهم قدموا على أنفسهم أمير اسمه لذريق، وكان يعبد الأوثان، فسار إلى رومة ليحمل النصارى على السجود لأوثانه، فظهر منه سوء سيرته، فتخاذل أصحابه عنه ومالوا إلى أخيه وحاربوه، فاستعان بصاحب رومة فبعث إليه جيشاً، فهزم أخاه، ودان بدين النصارى، وكانت ولايته ثلاث عشرة سنة، ثم ولي بعده اقريط، وبعده املريق، وبعده وغديش، وكانوا قد عادوا إلى عبادة الأوثان، فجمع من أصحابه مائة ألف وسار إلى رومة، فسير إليه ملك الروم جيشاً فهزموه وقتلوه.
ثم بعده اطلوف ست سنين وخرج عن بلد إيطالية وأقام ببلد غاليس مجاوراً أقصى الأندلس، ثم انتقل منها إلى برشلونة.
ثم بعده أخوه ثلاث سنين ثم بعده والياً، ثم بوردزاريش ثلاثاً وثلاثين سنة، ثم ابنه طرشمند، ثم بعده أخوه لذريق ثلاث عشرة سنة، ثم بعده أوريق سبع عشرة سنة، ثم بعده الريق بطلوشة ثلاثاً وعشرين سنة، ثم عشليق، ثم امليق سنتين، ثم توذيوش سبع عشرة سنة وخمسة أشهر، ثم بعده ليوبا ثلاث أشهر، ثم بعده اثله خمس سنين، ثم بعده اطلنجة خمس عشرة سنة، ثم بعده ليوبا ثلاث أشهر، ثم بعده اثله خمس سنين، ثم بعده اطلنجة خمس عشرة سنة، ثم بعده طودتقليس سنة وثلاث أشهر، ثم بعده اثله خمس سنين، ثم بعده اطلنجة خمس عشرة سنة، ثم بعده ليوبا ثلاث سنين، ثم بعده أخوه لويلد، وهو أولمن اتخذ طليطلة دار ملك ونزلها ليكون متوسطاً لملكه ليحارب من خرج عن طاعته عن قريب، فلم يزل يحارب من خرج عن طاعته حتى احتوى على جميع الأندلس وبنى مدينة رقوبل وأتقنها وأكثر بساتينها، وهو على القرب من طليطلة، وسماها باسم ولده، وغزا بلاد البشقنس حتى أذلهم، وخطب إلى ملك الفرنج ابنته لولده ارمنجلد فزوجه وأسكنه إشبيلية، فحسنت له عصيان والده، ففعل، فسار إليه أبوه وحصرهما وضيق عليه وطال مقامه إلى أن أخذه عنوة وسجنه إلى أن مات.
ثم ملك بعد لويلد ابنه ركرد، وكان حسن السيرة، فجمع الأساقفة وغير سيرة أبيه وسلم البلاد إليهم، وكانوا نحو ثمانين أسقفاً، وكان تقياً عفيفاً قد لبس ثياب الرهبان، وهو الذي بنى الكنيسة المعروفة بالوزقة بإزاء مدينة وادي آش. ثم بعده ابنه ليوبا فسار كسيرة أبيه، فاغتاله رجل من القوط يقال له بتريق فقتله، وملك بعده بتريق رضا أهل الأندلس، وكان مجرماً طاغياً فاسقاً، فثار عليه رجل من خاصته فقتله.
ثم ملك من بعده غندمار سنتين، ثم ملك بعده سيسيفوط، وكانت ولايته تسع سنين، وكان حسن السيرة، ثم بعده ابنه ركريد، وكان صغيراً عمره ثلاثة أشهر، ومات، ثم ملك شنتله، وكان ملكه عند البعث، وكان مشكوراً، ثم بعده سشنند خمس سنين، ثم بعده خنتلة ستة أعوام، ثم بعده خندس أربعة أعوام، ثم بعده بنبان ثمانية أعوام، ثم بعده أروى سبع سنين.
وكان في دولته قحط شديد حتى كادت بلاد الأندلس تخرب لشدة الجوع.
ثم بعده ابقه خمس عشرة سنة، وكان جائراً مذموماً، ثم ملك بعده ابنه غيطشه، وكانت ولايته سنة سبع وسبعين للهجرة، وكان حسن السيرة لين العريكة وأطلق كل محبوس كان في سجن أبيه وأدى الأموال إلى أربابها.
ثم توفي وخلف ولدين فلم يرض بهما أهل الأندلس وتراضوا برجل يقال له رذريق، وكان شجاعاً وليس من بيت الملك، وكانت عادة ملوك الأندلس إنهم يبعثون أولادهم الذكور والإناث إلى مدينة طليطلة يكونون في خدمة الملك لا يخدمه غيرهم يتأدبون بذلك، فإذا بلغوا الحلم أنكح بعضهم بعضاً وتولى تجهيزهم، فلما ولي رذريق أرسل إليه يوليان، وهو صاحب الجزيرة الخضراء وسبتة وغيرهما، ابنةً له، فاستحسنها رذريق وافتضها، فكتبت إلى أبيها، فأغضبه ذلك، فكتب إلى موسى بن نصير عامل الوليد بن عبد الملك على إفريقية بالطاعة واستدعاه إليه، فسار إليه، فأدخله يوليان مدائنه وأخذ عليه العهود له ولأصحابه بما يرض به، ثم وصف له الأندلس ودعاه إليها، وذلك آخر سنة تسعين.
فكتب موسى إلى الوليد بما فتح الله عليه وما دعاه إليه يوليان. فكتب إليه الوليد: خضها بالسرايا ولا تغرر بالمسلمين في بحر شديد الأهوال. فكتب إليه موسى: إنه ليس ببحر متسع وإنما هو خليج يبين ما وراءه. فكتب إليه الوليد أن اختبرها بالسرايا وإن كان الأمر على ما حكيت.
فبعث رجلاً من مواليه يقال له طريف في أربعمائة رجل ومعهم مائة فرس، فسار في أربع سفائن فخرج في جزيرة بالأندلس فسميت جزيرة طريف لنزوله فيها، ثم أغار على الجزيرة الخضراء فأصاب غنيمةً كثيرة ورجع سالماً في رمضان سنة إحدى وتسعين. فلما رأى الناس ذلك تسرعوا إلى الغزو.
ثم إن موسى دعا مولى له كان على مقدمات جيوشه يقال له طارق بن زياد فبعثه في سبعة آلاف من المسلمين أكثرهم البربر والموالي وأقلهم العرب، فساروا في البحر، وقصد إلى جبل منيف وهو متصل بالبر فنزله، فسمي الجبل جبل طارق إلى اليوم، ولما ملك عبد المؤمن البلاد أمر ببناء مدينة على هذا الجبل وسماه جبل الفتح، فلم يثبت له هذا الاسم وجرت الألسنة على الأول.
وكان حلول طارق فيه في رجب سنة اثنتين وتسعين من الهجرة. ولما ركب طارق البحر غلبته عينه فرأى النبي ومعه المهاجرون والأنصار قد تقلدوا السيوف ونكبوا القسي، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: يا طارق تقدم لشأنك. وأمره بالرفق بالمسلمين والوفاء بالعهد، فنظر طارق فرأى النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه قد دخلوا الأنلدلس أمامه، فاستيقظ من نومه مستبشراً وبشر أصحابه وقويت نفسه ولم يشك في الظفر.
فلما تكامل أصحاب طارق بالجبل نزل إلى الصحراء وفتح الجزيرة الخضراء فأصاب بها عجوزاً، فقالت له: إني كان لي زوج وكان عالماً بالحوادث وكان يحدثهم عن أمير يدخل بلدهم فيغلب عليه، ووصف من نعته أنه ضخم الهامة، وان في كتفه اليسرى شامة عليها شعر؛ فكشف طارق ثوبه فإذا الشامة كما ذكرت، فاستبشر طارق أيضاً هو ومن معه. ونزل من الجبل إلى الصحراء وافتتح الجزيرة الخضراء وغيرها وفارق الحصن الذي في الجبل.
ولما بلغ ذريق غزو طارق بلاده عظم ذلك عليه، وكان غائباً في غزاته، فرجع منها طارق قد دخل بلاده فجمع له جمعاً يقال بلغ مائة ألف، فلما بلغ طارقاً الخبر كتب إلى موسى يستمده ويخبره بما فتح وأنه زحف إليه ملك الأندلس بما لا طاقة له به. فبعث إليه بخمسة آلاف، فتكامل المسلمون اثني عسر ألفاً ومعهم يوليان يدلهم على عورة البلاد ويتجسس لهم الأخبار. فأتاهم رذريق في جنده، فالتقوا على نهر لكة من أعمال شذونة لليلتين بقيتا من رمضان سنة اثنتين وتسعين، واتصلت الحرب ثمانية أيام، وكان على ميمنته وميسرته ولدا الملك الذي كان قبله وغيرهما من أبناء الملوك، وافتقوا على الهزيمة بغضاً لرذريق، وقالوا: إن المسلمين إذا امتلأت أيديهم من الغنيمة عادوا إلى بلادهم وبقي الملك لنا. فانهزموا وهزم الله رذريق ومن معه، وغرق رذريق في النهر، وسار طارق إلى مدينة إستجة متبعاً لهم، فلقيه أهلها ومعهم من المنهزمين خلق كثير، فقاتلوه قتالاً شديداً، ثم انهزم أهل الأندلس ولم يلق المسلمون بعدها حرباً مثلها. ونزل طارق على عين بينها وبين مدينة إسجة أربعة أميال فسميت عين طارق إلى الآن.
ولما سمعت القوط بهاتين الهزيمتين قذف الله في قلوبهم الرعب، وكانوا يظنون أنه يفعل فعل طريف، فهربوا إلى طليطلة، وكان طريف قد أوهمهم أنه يأكلهم هو ومن معه. فلما دخلوا لطيلطلة وأخلوا مدائن الأندلس قال له يوليان: قد فرغت من الأندلس ففرق جيوشك وسر أنت إلى طيطلة. ففرق جيوشه من مدينة إستجة وبعث جيشاً إلى قرطبة، وجيشاً إلى غرناطة، وجيشاً إلى مالقة، وجيشاً إلى تدمير، وسار إلى قرطبة فإنهم دلهم راعٍ على ثغرة في سورها فدخلوا منها البلد وملكوه.
وأما الذين قصدوا تدمير فلقيهم صاحبها، واسمه تدمير وبه سميت، وكان اسمها أرويولة، وكان معه جيش كثيف، فقاتلهم قتالاً شديداً ثم انهزم فقتل من أصحابه خلق كثير، فأمر تدمير النساء فلبسن السلاح ثم صالح المسلمين عليها وفتح سائر الجيوش ما قصدوا إليه من البلاد.
وأما طارق فلما رأى طليطلة فازغة ضم إليها اليهود وترك معهم رجالاً من أصحابه وسار هو إلى وادي الحجارة فقطع الجبل من فج فيه فسمي بفج طارق إلى اليوم. وانتهى إلى مدينة خلف الجبل تسمى مدينة المائدة، وفيها وجد مائدة سليمان بن داود، عليه السلام، وهي من زبرجد خضر حافاتها وأرجلها منها مكللة باللؤلؤ والمرجان والياقوت وغير ذلك، وكان لها ثلاثمائة وستون رجلاً. ثم مضى إلى مدينة ماية فغنم منها ورجع إلى طليطلة في سنة ثلاث وتسعين.
وقيل: اقتحم أرض جليقية فخرقها حتى انتهى إلى مدينة استرقة وانصرف إلى طليطلة ووافته جيوشه التي وجهها من إستجة بعد فراغهم من فتح تلك المدن التي سيرهم إليها.
ودخل موسى بن نصير الأندلس في رمضان سنة ثلاث وتسعين في جمع كثير، وكان قد بلغه ما صنعه طارق فحسده، فلما عبر إلى الأندلس ونزل الجزيرة الخضراء قيل له: تسلك طريق طارق، فأبى، فقال له الأدلاء: نحن ندلك على طريق اشرفن طريقه ومدائن لم تفتح بعد، ووعده يوليان بفتح عظيم، فسر بذلك، وكان قد غمه.
فساروا به إلى مدينة ابن السليم فافتتحها عنوة، ثم سار إلى مدينة قرمونة، وهي أحصن مدن الأندلس، فقدم إليها يوليان وخاصته، فأتوهم على الحال المنهزمين معهم السلاح فأدخلوهم مدينتهم، فأرسل موسى إليهم الخيل ففتحوها لهم ليلاً، فدخلها المسلمون وملكوها، ثم سار موسى إلى إشبيلية، وهي من أعظم مدائن الأندلس بنياناً وأعزها آثاراً، فحصرها أشهراً وفتحها وهرب من بها، فأنزلها موسى اليهود وسار إلى مدينة ماردة فحصرها، وقد كان أهلها خرجوا إليه فقاتلوه قتالاً شديداً، فكمن لهم موسى ليلاً في مقاطع الصخر، فلم يرهم الكفار، فلما أصبحوا زحف إليهم فخرجوا إلى المسلمين على عادتهم فخرجوا عليهم من الكمين وأحدقوا بهم وحالوا بينهم وبين البلد وقتلوهم قتلاً ذريعاً ونجا من نجا منهم، فدخل المدينة، وكانت حصينة، فحصرهم بها شهراً، وقاتلهم، وزحف إليهم بدبابة عملها ونقبوا سورها، فخرج أهلها على المسلمين، فقتلوهم عند البرج، فسمي برج الشهداء إلى اليوم، ثم افتتحها آخر رمضان سنة أربع وتسعين يوم الفطر صلحاً على جميع أموال القتلى يوم الكمين وأموال الهاربين إلى جليقية وأموال الكنائس وحيلها للمسلمين.
ثم إن أهل إشبيلية اجتمعوا وقصدوها فقتلوا من بها من المسلمين، فسير موسى إليها ابنه عبد العزيز بجيش فحصرها وملكها عنوةً وقتل من بها من أهلها وسار عنها إلى لبلة وباجة فملكها وعاد إلى إشبيلية.
وسار موسى من مدينة ماردة في شوان يريد طليطلة، فخرج إليه طارق فلقيه، فلما أبصره نزل إليه فضربه موسى بالسوط على رأسه ووبخه على ما كان من خلافه ثم سار به إلى مدينة طليطلة، فطلب منه ما غنم والمائدة أيضاً، فأتاه بها وقد انتزع رجلاً من أرجلها، فسأله عنها فقال: لا علم لي، كذلك وجدتها، فعمل عوضها من ذهب.
وسار موسى إلى سرقسطة ومدائنها فافتتحها وأوغل في بلاد الفرنج فانتهى إلى مفازة كبيرة وأرض سهلة ذات آثار، فأصاب فيها صنماً قائماً فيه مكتوب بالنقر: يا بني إسماعيل هاهنا منتهاكم فارجعوا، وإن سألتم إلى ماذا ترجعون أخبرتكم أنكم ترجعون إلى الإختلاف فيما بينكم حتى يضرب بعضكم أعناق بعض، وقد فعلتم.
فرجع ووافاه رسول الوليد في أثناء ذلك يأمره بالخروج عن الأندلس والقفول إليه، فساءه ذلك ومطل الرسول وهو يقصد بلاد العدو في غير ناحية الصنم يقتل ويسبي ويهدم الكنائس ويكسر النواقيس حتى بلغ صخرة بلاي على البحر الأخضر، وهو في قوة وظهور، فقدم عليه رسول آخر للوليد يستحثه وأجذ بعنان بغلته وأخرجه، وكان موافاة الرسول بمدينة لك بجليقية، وخرج على الفج المعروف بفج موسى، ووافاه طارق من الثغر الأعلى معه ومضيا جميعاً.
واستخلف موسى على الأندلس ابنه عبد العزيز بن موسى، فلما عبر البحر إلى سبتة استخلف عليها وعلى طنجة وما والاهما ابنه عبد الملك، واستخلف على إفريقية وأعمالها ابنه الكبير عبد الله، وسار إلى الشام وحمل الأموال التي غنمت من الأندلس والذخائر والمائدة ومعه ثلاثون ألف بكر من بنات ملوك القوط وأعيانهم ومن نفيس الجوهر والأمتعة ما لا يحصى، فورد الشام، وقد مات الوليد بن عبد الملك، واستخلف سليمان بن عبد الملك، وكان منحرفاً عن موسى بن نصير، فعزله عن جميع أعماله وأقصاه وحبسه وأغرمه حتى احتاج أن يسأل العرب في معونته.
وقيل: إنه قدم الشام والوليد حي، وكان قد كتب إليه وادعى أنه هو الذي فتح الأندلس وأخبره خبر المائدة، فلما حضر عنده عرض عليه ما معه وعرض المائدة، ومعه طارق، فقال طارق: أنا غنمتها. فكذبه موسى. فقال طارق للوليد: سله عن رجلها المعدومة. فسأله عنها فلم يكن عنده علم، فأظهرها طارق وذكر أنه أخفاها لهذا السبب. فعلم الوليد صدق طارق وإنما فعل هذا لأنه كان حبسه وضربه حتى أرسل الوليد فأخرجه، وقيل لم يحبسه.
قالوا: ولما دخلت الروم بلاد الأندلس كان في مملكتهم بيت إذا ولي ملك منهم أقفل عليه قفلاً، فلما ملكت القوط فعلوا كفعلهم، فلما ملك رذريق أراد فتح الأقفال فنهاه أكابر أهل البلاد عن ذلك فلم يقبل منهم وفتح الأقفال فرأى في البيت صور العرب وعليهم العمائم الحمر على خيول شهب، وفيه كتاب: إذا فتح هذا البيت دخل هؤلاء القوم هذا البلد. ففتحت الأندلس تلك السنة.
فهذا القدر كاف في فتح الأندلس، ونذكر باقي أخبار الأندلس عنه أوقات حدوثها على ما شرطنا إن شاء الله تعالى.

.ذكر غزوة جزيرة سردانية:

هذه الجزيرة في بحر الروم، وهي من أكبر الجزائر ما عدا جزيرة صقلية وأقريطش، وهي كثيرة الفواكه، ولما فتح موسى بلاد الأندلس سير طائفة من عسكره في البحر إلى هذه الجزيرة سنة اثنتين وتسعين فدخلوها، وعمد النصارى إلى ما لهم من آنية ذهب وفضة فألقوا الجميع في الميناء الذي لهم وجعلوا أموالهم في سقف بنوه للبيعة العظمى التي لهم تحت السقف الأول، وغنم المسلمون فيها ما لا يحد ولا يوصف، وأكثروا الغلول. فاتفق أن رجلاً من المسلمين اغتسل في الميناء فعلقت رجله في شيء فأخرجه فإذا صفحة من فضة، وفإذا المسلمون جميع ما فيه، ثم دخل رجل من المسلمين إلى تلك الكنيسة فنظر إلى حمام فرماه بسهم فأخطأ ووقع في السقف وانكسر لوح فنزل منه شيء من الدنانير وأخذوا الجميع، وازداد المسلمون غلولاً، فكان بعضهم يذبح الهرة ويرمي ما في جوفها فيملأه دنانير ويخيط عليها ويلقيها في الطريق، فإذا خرج أخذها، وكان يضع قائم سيفه على الجفن ويملأه ذهباً.
فلما ركبوا في البحر سمعوا قائلاً يقول: اللهم غرقهم، فغرقوا عن آخرهم، فوجدوا أكثر الغرقى والدنانير على أوساطهم.
وفي سنة خمس وثلاثين ومائة غزاها عبد الرحمن بن حبيب بن أبي عبيدة الفهري فقتل من بها قتلاً ذريعاً ثم صالحوه على الجزية، فأخذت منهم وبقيت ولم يغزها بعده أحد، فعمرها الروم.
فلما كانت سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة أخرج إليها المنصور بن القائم العلوي، صاحب إفريقية، أسطولاً من المهدية فمروا بجنوة ففتحوا المدينة وأوقعوا بأهل سردانية وسبوا فيها وأحرقوا مراكب كثيرة وأخربوا جنوة وغنموا ما فيها.
وفي سنة ست وأربعمائة غزاها مجاهد العامري من دانية، وكان صاحبها في البحر في مائة وعشرين مركباً، ففتحها وقتل فأكثر وسبى النساء والذرية، فسمع بذلك ملوك الروم فجمعوا إليه وساروا إليه من البر الكبير في جمع عظيم فاقتتلوا، وانهزم المسلمون وأخرجوا من جزيرة سردانية، وأخذت بعض مراكبهم وأسر أخو مجاه وابنه علي بن مجاهد، ورجع بمن بقي إلى دانية ولم تغز بعد ذلك.
وإنما ذكرنا جميع أخبارها هاهنا لقتلتها، وإذا تفرقت لم تعرف كما يجب.